ماذا يعني افلاس لبنان .. “مفاجأة غير مفاجِئة”. تلك هي المعادلة التي تختصر الاعلان المحير من جانب مسؤول حكومي لبناني، بشأن إفلاس الدولة والبنك المركزي، فيما يفهم العدد الكبير من اللبنانيين فعليا ان بلادهم المصنفة بين أخطر 3 ظروف حرجة اقتصادية على نطاق العالم خلال 150 سنة على حسب صندوق النقد الدولي، اصبحت منذ أشهُر عديدة، متعثرة او شبه عاجزة عن الايفاء بالحد الأدنى من التزاماتها النقدية.

ماذا يعني افلاس لبنان

وهو ليس خبرا سارا بالنسبة لمئات آلاف العائلات اللبنانية التي باتت تعاني من الفقر بعدما أدت أعوام طويلة من فشل الإدارة والفساد و المحاصصات الطائفية، في سقوط البلاد بشكل متدرج في مستنقع الديون التي تقارب الـ100 مليار دولار، في بلد يبلغ عدد سكانه حوالى 6 ملايين انسان.

ولهذا فان اعلان مندوب رئيس إدارة الدولة اللبنانية سعادة الشامي، فجأة هذه اللحظة، وعن طريق اجتماع على واحدة من قنوات التلفزيون المحلية، وليس على يد رئيس الحكومة ذاته نجيب ميقاتي، الذي يعتبر اعلى سلطة تنفيذية في الجمهورية، ويدلي بتصريحات شبه يومية عن كل شاردة وواردة من تقدمات سياسية واقتصادية، حرض تساؤلات كثيرة بين اللبنانيين.

ومن وجهة نظر شرعية حتى الان، فان تصريح سعادة الشامي برغم منصبه الحكومي، لا يعكس الظرف الرسمي من منحى الجمهورية اللبنانية التي يتحتم عليها، لو أنه الوضع الحالي هو “إفلاس” فعلي، أن تعلن عن ذاك ببيان رسمي موجه الى المواطنين عموما، ثم الى الجهات العالمية المقصودة، خاصة البنك الدولي والجهات العالمية المانحة والواجهة للمساعدات والقروض والتي ترجع إليها مبالغ نقدية هائلة من ديون لبنان الخارجية.

كان سعادة الشامي يتحدث في الاجتماع التلفزيونية عن “إفلاس الدولة مصرف لبنان المركزي”، مشيرا إلى أنه سيجري تجزئة الدمار على الجمهورية ومصرف لبنان والمصارف والمودعين.

وحتى الآن، لم يكن أي مسؤول حكومي لبناني قد اعلن افلاس البلد برغم استمرار الحالة الحرجة الاقتصادية منذ أواخر العام 2019، مثلما أن الجمهورية لم تعترف بوجود سياسة “الهير كات” (قص الشعر) على الحسابات البنكية للمودعين برغم أن البنوك فرضت قيود كبيرة جدا، وخطوات اقتطاع مجحفة من حسابات المودعين في البنوك تبلغ حواجز سبعين% من سعر نقودهم المحتجزة.

وبرغم تلك المفاجأة غير السارة، كانت في بال اللبنانيين وتوقعاتهم، سوى أنهم يتساءلون حالا عن دافع ذلك الاعلان والفحوى من موعده، في الأيام الأولى من شهر رمضان الثقيل على جيوب اللبنانيين، وقبل أسابيع قليلة من التوقيت النظري لفتح صناديق الاقتراع، في أول انتخابات برلمانية في مرحلة ما حتى الآن “ثورة تشرين الأول” (أكتوبر) 2019، وبدء الانهيار الشامل لليرة اللبنانية في مواجهة الدولار.

يتخوف كثيرون هذه اللحظة من بيان الشامي لانه يجدد الاشارة الى ان المودعين سيتحملون مجددا جزءا من تقسيم خسائر الإفلاس، حيث صرح في المحفل “سيجري توزيع الخسائر على البلد ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، ولا تبقى نسبة مئوية محددة”، مضيفا ان “هناك حقيقة غير ممكن تجاهلها ولا من الممكن أن نعيش في وضعية إنكار ولا من الممكن أن نفتح السحوبات (المصرفية) لكل الناس”.

وبانتظار المزيد من التوضيحات الحكومية من ناحية الحكومة، فان الصدمة هي التي يختصر عواطف اللبنانيين ازاء هذا الاعلان المدوي والغريب بشكل ما، ويثير بحرا من الاستفسارات عما يعنيه ذلك بالنسبة الى احوالهم الاقتصادية المتردية والتي جعلت منظمة الأمم المتحدة تقدر بأن الفقر أمسى يطال حاليا باتجاه سبعين% من اللبنانيين.

ولذا، يطرح اللبنانيون الكثير من الاسئلة فقط مثل : كم سنخسر ايضا؟ ما هو مصير أموالنا؟ كم سيقتطع منها؟ وبأي نسبة؟ وهل ستستهدف الودائع الموجودة بالدولار أم بالليرة؟ هل سيطال “الإفلاس” أملاكهم ومنازلهم وأراضيهم وغيرها؟ وهل سيدفع “الافلاس” جحافل اضافية من الشبان والكفاءات المتنوعة من أطباء ومهندسين وممرضين ومعلمين صوب الهجرة بأحجام أكبر الأمر الذي حدث طوال العامين السابقين؟

وفي إستمر كل هذا، فإن الأخطر ايضاً ان اعلان المسؤول الحكومي اللبناني يثير العديد من المخاوف بخصوص مصير الجمهورية في المستقبل، وماذا يعنيه ذلك، في وقت يدخُل مفاوضات مع البنك الدولي منذ شهور متعددة على برامج انقاذ اقتصادية تشترط تطبيق العدد الكبير من “الإصلاحات” الجذرية المتعثرة حتى هذه اللحظة.

ويعني هذا، أن جلسات التفاهم مع وعاء النقد، والمجتمع العالمي عموما، قد تدخل حاليا انعطافة عارمة تفتقر الالتزام بشروط الصندوق القاسية بمعظمها على جيوب المدنيين وأوضاعهم.

افلاس الدولة

من وجهة نظر اقتصادية فإن الجمهورية تصبح “مفلسة” فعليا حينما تعجز على الوفاء بالتزاماتها المالية كرواتب موظفيها وتعاقداتها في تطبيق المشاريع المتغايرة، وتتعثر ايضا في صرف ثمن ما تشتريه من الخارج من منتجات وسلع مختلفة بما في هذا حاجاتها الأساسية مثل المأكولات والمشروبات كالقمح، والوقود والأدوية وغيرها.

وعادة يسبب النشر والترويج عن الإفلاس وضعية ذعر تسوق الى هروب أموال المستثمرين الى خارج البلد، بالاضافة الى تقوم بالدفاع أصحاب الودائع لجر نقودهم من المصارف، وهي بالأساس موقف قائمة في لبنان منذ أكثر من عام.

وبإعلان إفلاسها رسميا، فان إدارة الدولة اللائحة مكرهة على الذهاب للتفاوض في حضور محددات وقواعد شاقة مع الجهات الخارجية كصندوق النقد، حيث انها تطلب عادة اعادة بناء وتركيب ديونها، في حين تحط الجهات الخارجية اشتراطات شاقة وقاسية على جيوب المدنيين، إذ تفرض قبل تقديم مساعداتها النقدية على حسب خطط تمتد لسنوات طويلة، أن تنفذ الحكومة خطوات مثل تقليص المؤسسات الحكومية بتسريح المستوظفين، وتنفيذ سياسات ضرائبية اعلى ورفع الدعم على البضائع الاساسية كالقمح والوقود، ما يؤدي الى “تحرر” التكاليف، وارتفاعها بشكل ضخم.

وهنالك الكمية الوفيرة من الدول التي سبق لها أن أفصحت إفلاسها في غير مشابه القارات بما في هذا أوروبا إذ أن ألمانيا مثلا اعلنت افلاسها 8 مرات طوال القرون الثلاثة الفائتة، وأميركا خمس مرات.

الا ان المثير للقلق في حالات عدد محدود من الدول المفلسة، أنه قد لا تتوفر لديها المقدرات والموارد ذات البأس والغنية التي تسمح لها الذهاب للخارج من كبوتها سريعا وبصعوبة اقل، كحال لبنان مثلا الذي لا يتمتع بموارد كالنفط والغاز والمعادن التي قد تسهل عليه الخروج من خندق الحالة الحرجة الاقتصادية المستفحلة.

وسبق لدول اخرى ان اعلنت افلاسها كالبرازيل والمكسيك والاكوادور والاورجواي وتشيلي ومصر وإسبانيا، إضافة إلى برنامج teams دولة روسيا التي أفصحت أحدث إفلاس لها في السنة 1998 نتيجة تداعيات فشل سياساتها الاستثمارية في مرحلة ما بعد تداعي التحالف السوفياتي العام 1991.

ومن الأمثلة البارزة لإعلان الدول إفلاسها في المنصرم القريب، ثمة ايضاً قدوة الأرجنتين التي توقفت في العام 2001 عن سداد ديونها الخارجية التي بلغت الى 132 مليار دولار، بعدما غرقت في مرحلة كساد دامت لسنوات اصابت الحكومة بالعجز عن الإخلاص بالتزاماتها. واضطرت الارجنتين الى اللجوء لصندوق النقد الدولي للاستحواذ على حزم مساعدات بمليارات الدولارات لمحاولة الذهاب للخارج من أزمتها، وإنفاذ فوقها تأدية أفعال تقشف قاسية أثارت الكمية الوفيرة من الإضرابات والاحتجاجات الشعبية.

المثال البارز الآخر في السالف القريب، كانت اليونان التي اعلنت افلاسها في العام 2012، بعدما كانت أعلنت افلاسها في سنين 1827، 1843، 1893، 1932، وللمفارقة لنفس الاسباب التي ادت بها في المرة الاخيرة الى العجز على الايفاء بمستحقات ديونها إذ بلغ معدل الدين الحكومي الى 313 مليار يورو، وبإضافة الديون على البنوك والشركات اليونانية، وصل كلي الدين الى صوب 1/2 تريليون يورو.

ومن قلب عوامل إفلاس اليونان الأخير، الإنفاق الضخم على التسليح في مؤتمر الإجهاد النفسي المستديم مع تركيا، والفساد الإداري، وتعثر قوانين جذب المشروعات الاستثمارية، وفشل الدولة في جمع الرسوم بفاعلية، الى جانب البيروقراطية والفساد السياسي. إلا أن من بين الأسباب الوظيفة الأخرى، دخول أثينا في الاتحاد الأوروبي ما أضعف قدرة صناعاتها ومنتجاتها على المنافسة في مواجهة الصناعات الاوروبية.

ومن قلب الأفعال التي اتبعت للخروج من الازمة، سياسة “الهير كات” المتبعة في لبنان هذه اللحظة، حيث الحقت خسائر فادحة بمبادرة السندات الحكومية، وأجبرت الحكومة على تأدية أفعال تقشف قاسية، فضلا على ذلك القبول على تدبير انقاذ اوروبية مع حاوية النقد، ثمنها أكثر من 130 مليار دولار، وفرضت على اثينا المزيد من اجراءات التقشف الهادفة الى أنقص العجز بالموازنة العامة كتخفيض الرواتب، والتي مست حياة ملايين اليونانيين، وافقرتهم.