خطبة فضل العشر الأواخر من رمضان وَمَا يشرع فيها .. عباد الله: من فضل الله تعالي على أمة محمد عليه الصلاة والسلام أن جعل لهم مواسم للطاعات تزداد بشكل مضاعف فيها الحسنات

وترفع فيها الدرجات، ويغفر فيها عديد من الذنوب والسيئات، فالسعيد من اغتنم هذه الآونة وتعرض لتلك النفحات، ومن تلك النفحات العشر الأواخر من رمضان بما فيها ليلة القدر؛ لهذا حثنا عليه الصلاة والسلام على اغتنام تلك النفحات إذ قال:”اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده

فاسألوا الله أن يستر عوراتكم ويُؤمِّن روعاتكم”( أخرجه ابن والدي الدنيا والطبراني)، وقال أيضاًً صلى الله عليه وسلم:” إن لربكم في أيام الوقت نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا “( أخرجه الطبراني)، ولو نظرنا إلى أعمار الأمم السابقة لوجدنا أنهم كانوا يعيشون المئات إلا أن الآلاف من السنين

فهذا نوح عليه أفضل السلام لبث في قومه 950 سنة، أفاد هلم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ( العنكبوت: 14)، فمدة بعثة نوح عليه أفضل السلام 950 سنة، وعاش قبل البعثة مدة وبعد الطوفان مرحلة، يعني أكثر من ألف عام، فلو قارنت عمرك وحسبت صلاتك وصومك وزكاتك وجميع أعمالك في عمرك الذي يتنوع بين الستين والسبعين،

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ؛ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ “( الحاكم والترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في السليمة) فكم تكون أعمالك بين هذه الأعمار المديدة؟؟!! وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بذلك، خسر أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ “، فالله زاد الأمم الماضية بسطة في البدن والعمر

 

وما يزال الخلق يقصر طولاً وعمراً حتى هذه اللحظة، لذا خص الله تلك الأمة بنفحات متمثلة في أوقات عددها قليل تشتمل على فضائل ورحمات غزيرة حتى تلحق تلك الأمة غيرها من الشعوب في الأجر والفضل والمكافأة، وإليك قليل من الأمثلة مدعمة بالأدلة السليمة الصريحة من القرآن والسنة:-

أولاً: كثرة الأجر مع قلة العمل وقصر الوقت

ولقد أخرج البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ؛ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ. فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً؟!! قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟! قَالُوا: لَا ؛ قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ .”، فمضاعفة الأجر مع قلة الشغل وقصر الزمان، فضل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ثانياً: شهر رمضان المبارك

فشهر رمضان من أعظم نفحات وخصوصيات أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك إذا وُفِّقت فيه لعمل حسَن فإنك ستسبق الجميع إلى الجنة حتى الشهيد. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً. قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ فَعَجِبْتُ لِذَلِكَ!! فَأَصْبَحْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟!! “( السلسلة الصحيحة، الألباني)، فمع أنهما أسلما يوما ما فرد ومات الأضخم شهيداً، بل تأجيل وفاة الآخر سنة جعله سابقا للشهيد إلى الجنة لأنه أدرك شهراً من رمضان ارتفاع على صاحبه وبارك الله له فيه.

ثالثاً: صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة

فعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح:”صلاة في مسجدي ذلك أفضل من 1000 صلاة في حين سواه سوى المسجد الحرام، ودعاء بالمسجد الحرام أرقى من 100 1000 تضرع”( أخرجه أحمد وابن ماجه بإسنادين صحيحين)، فصلاة واحدة تعدل 100 ألف تضرع، ولو قسَّمنا مائة 1000 تضرع على خمس دعوات في اليوم، ثم الأعوام لخرج الناتج 55 سنة و6 أشهر و20 يوماً، هذه تضرع واحدة فما بالك لو صليت شهراً أو شهرين في المسجد الحرام؟؟؟؟!!!

رابعاً: سبق أمة محمد جميع الأمم يوم القيامة

لاشك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستسبق الشعوب الماضية الآخرة،كما بشرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا، ولقد أخرج البخاري عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا “، فمع أن اليهود والنصارى قبلنا في العالم إلا أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام قبلهم وسابقة لهم في البعث والحساب ودخول الجنة؛ كما تحدثت بذلك حكاية الإمام مسلم حيث صرح صلى الله عليه وسلم:” نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ ”، وفي رواية عند مسلم ايضاً:” نَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ”؛ أقول: لو أنك وضعت طعاماً في إناءٍ هائلٍ وأردت أن تغرف منه؛ فإن أحدث الأكل وحط هو أول أكل غُرف، ولله المثل الأعلى.

خامساً: ليلة القدر تعدل ألف شهر

صرح ابن كثير في تفسيره عن مجاهد: ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل إشكال السلاح في طريق الله 1000 شهر، أفاد: فَعَجب المسلمون من ذلك، أفاد: فأنزل الله عز وجل: إِنَّا أَتدنىْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ؛ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ( القدر : 1-3) التي لبس ذاك الرجل السلاح في سبيل الله 1000 شهر، فليلة واحدة خير من عبادة 83 سنة من الشعوب الفائتة، فما بالك لو صادفتك ليلة القدر عشرين سنة مثلاً.”

وعَنْ الِإمَامِ مَالِك أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ:” إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ أَنْ لَا يَبْلُغُوا مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ” ( موطأ مالك)

وهناك أمثلةٌ عديدةٌ لمضاعفة الأجر والفضل لا يتسع المقام لذكرها، وما ذكر على سبيل المثال لا الحصر، وأنت بهذا ماهر ومتمرس في علم بقية الأمثلة من الكتاب والسنة.

فالحمد لله الذي أنعم على الأمة المحمدية بمواسم الطاعات وميادين الخيرات، وساحات المغفرة والرحمات،إذ يتبارون فيها إلى رضوانه، ويتنافسون بينما يقربهم من فضله وإحسانه، وتلك المواسم هدية ومنة من الله سبحانه وتعالى على عباده؛ لأن المجهود فيها بسيط والأجر والمكافأة جزيل، وهى والله إحتمالية عظيمة لا يحجب خيرها سوى محروم، ولا يغتنمها إلا مَن وفَّقهُ الله