خطبة الجمعة القادمة للدكتور خالد بدير .. الحمدلله للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ نفوسِنَا وسيئاتِ ممارساتِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، صلَّى اللهُ عليه  وسلم. أمَّا في أعقابُ:

خطبة الجمعة القادمة للدكتور خالد بدير

أولًا: رتبةُ التجارةِ في الإسلامِ

لقد تحميسَّ الإسلامُ على التجارةِ في أبلغِ صورةٍ وأعظمِ فضيلةٍ، إذُ جعلَ اللهُ – سبحانَهُ وتعالَى – التنقلَ في الأرضِ للتجارةِ مساويًا للجهادِ في سبيلهِ، صرحَ تعالَى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ(المزمل: عشرين )، ففِي هذه الآيةِ “سوَّى اللهُ إيتي في تلك الآيةِ بينَ درجةِ المجاهدينَ والمكتسبينَ المالَ المباحَ للنفقةِ على ذاتهِ وعيالهِ، والإحسانِ والإفضالِ، فكانَ هذا دليلًا على أنَّ فازَ الملكيةِ بمنزلةِ الجهادِ؛ لأنَّهُ جمعهُ مع الجهادِ في سبيلِ اللهِ، صرح عبدُاللهِ بنُ عمرَ – رضي اللهُ عنه –: وما خلقَ اللهُ سبحانَهُ وتعالى موتةً أموتَهَا عقبَ الوفاةِ في سبيلِ اللهِ سبحانَهُ وتعالى أحبّ إلىَّ مِن الموتِ بينَ شعبتِي رحلِي، أبتغِي مِن فضلِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، ضاربًا في الأرضِ”. ( توضيح القرطبي).

فقد ضربَ لنَا الرسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلم أروعَ الأمثلةِ في ذلك منذُ صغرِهِ وشبابهِ، فكان يشتغلُ بالتجارةِ إلى بلادِ الشامِ مع عمهِ أبي طالبٍ، مثلما كان – صلَّى اللهُ فوقه وسلم – يتاجرُ في مالِ السيدةِ خديجةَ مع ولدِهَا مبسطةَ، فأُعجبتْ بأمانتِهِ وأخلاقِهِ حتى كان ذاك مبررَ زواجِهَا منهُ.

كما كان الصحابةُ رضي الله سبحانه وتعالىُ عنهم يعملُون بالتجارةِ، فهذا عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ سيدُّ أصحاب التجارةِ الصادقينَ الأمناء، الذي ضُربَ بهِ المثلُ في التجارةِ، ” فعن أنسٍ، أفاد: قدمَ عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ فآخَى النبيُّ صلَّى اللهُ فوق منه وسلم بينهُ وبينَ سعدِ بنِ الربيعِ الأنصاريِّ، فعرضَ أعلاهِ أنْ يناصفَهُ أهلَهُ ومالَهُ، فقالَ عبدُالرحمنِ: باركَ اللهُ لكَ في أهلِكَ ومالِكَ، دُلّنِى على مكان البيع والشراءِ. فخرجَ إلى مكان البيع والشراءِ وتاجرَ حتى أصبحَ مِن أغنَى أثرياءِ المدينةِ، يقولُ عبدُالرحمنِ بنُ عوفٍ:” فلقد رأيتُنِى ولو رفعتُ صخرًا لرجوتُ أنْ أصيبَ ذهبًا وفضةً.” (السيرة النبوية لابن عديد) .

ولذا الإمامُ أبو حنيفةَ الذي ملأَ معرفةُهُ الآفاقَ، كان صاحب متجرًا مباركَ اليدِ، وقد كان منهجُهُ الصدقَ والأمانةَ في البيعِ والشراءِ، وقد كان يتاجرُ في الخزِّ «الأقمشةِ والثيابِ». وذاتَ يومٍ جاءتْهُ امرأةٌ بثوبٍ مِن الحريرِ تبيعُهُ لهُ، فسألَهَا: كمْ قيمةُهُ؟ فقالتْ: 100. فقال: هو خيرٌ مِن 100ٍ، بكَمْ تقولِين ؟ فزادتْ مائةً مائةً حتى وصلتْ 400َ درهمٍ، فقال: هو خيرٌ مِن ذاك. فقالتْ أتهزأُ بِي؟ فقال: هاتِي رجلًا يُقَوّمُهُ، فجاءتْ برجلٍ فاشتراهُ بخمسمائةِ درهمٍ!!

فالصدقُ والأمانةُ في البيعِ والشراءِ طريقٌ إلى بركةِ البيعِ والشراءِ، فَعَن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا”(متفق أعلاه)؛ ويكفِي أنَّ الصادقَ يحشرُ مع النبيينَ والشهداءِ، وفي ذلك يقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ”( الحاكم والترمذي وحسنه).

وفي بمقابلِ الترغيبِ في الصدقِ والأمانةِ، ولقد رهَّبتْ السنةُ النبويةُ الشريفةُ مِن الكذبِ في التجارةِ، لأنَّهُ يُأرسلُ الكذابونَ مِن التجارِ يومَ القيامةِ فُجّارًا؛ فعن رِفَاعَةَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ:” يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ:” إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إِلَّا مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ”؛( ابن ماجة والترمذي وصححه).

فلو لم يكنْ الصدقُ والبِرُّ واجبين، لَمَا حَكَم عليهم بالفجورِ، وفي الرواياتِ الأخرى لما أفاد – فوقه الصلاةُ والسلامّ -: ” إنَّ التجارَ هُم الفجارُ “، صرحوا: أليسَ اللهُ أحلَّ البيعَ وحرَّمَ الربَا؟ قال: ” بلى، ولكنهم يَحلِفونَ ويُحاجزِّثونَ فيَكذِبون”. (أحمد والوالي وصححه ووافقه الذهبي).
العنصر الـ2 من بيان يوم الجمعة المقبلة

ثانيًا: صاحب التجارةُ الأمينُ قصصٌ وعبرٌ

هناكَ صورٌ مشرقةٌ لسلفِنَا الصالحِ في أمانةِ التجارةٍ، نذكرٌ أكثر أهميةَّهَا لنأخذَ منها العظةَ والعبرةَ ومِن ذلك:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ. وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا”( متفق أعلاه ).