شعر عن ثورة ديسمبر المجيدة 2021 … كشفت الحقبة الممتدة من كانون الأول/كانون الأول 2018 وحتى اليوم وجود تمكُّن ضخمة وسط غير مشابه فئات الشعب السوداني على ارتجال الشعارات والشعر والخطابات وتطويرها بالقوافي والتنغيم الموسيقي والزغاريد التي تعلمتها شابات سودان-القرن الحادي والعشرين المدينيّات ارتجالا وكفاحا من شوارع التظاهر ولهيب ميادين المعارك من دون تدريب يذكر في الأعراس.
كانت صوغ الشعارات وارتجالها وموسقتها اكثر إقبالاً خلال فترة التظاهرات المتحركة بفرها وكرها وتقنياتها بالاحتشاد المموّه والأخذ في التوقيت المعلن بتدشين هتاف أو زغرودة؛ بيد ان الفترة التي تلت 6 أبريل/إبريل السالف (ذكرى انتفاضة مارس-ابريل 1985) والاعتصام في مواجهة واجهة التقدم العامة للقوات المسلحة، وفّرت للحراك الثوري ميداناً ثابتاً في نطاق نقلة نوعيّة بات بها مجال الاعتصام مولّداً ثوريّاً يجد وقوده في قدوم وتواصل شعبي مستمر تمكن من توفير كل أشكال الدعم الجوهري والمعنوي وجعل من ميدان الاعتصام أملاً للثورة وبعبعاً لأعدائها على نطاق خمسين يوما إلى ان تم فضه بالشدة المسلحة في مذبحة ستتواصل أصداؤها وذيولها وشهدائها ترفد الخط الصاعد في السياسة السودانية لمدة طويل. وفّر مجال الاعتصام، بجانب هذا، منصات خطابة وفئات إبداع أخرى لناشطين وشعراء وفنانين إضافة إلى ذلك التشكيليين الذين جعلوا من المجال والجدران المجاورة فضاءات للأعمال الفنيّة من جداريات وصور للشهداء وخيم لكل الفئات ولكل المقاصد الحيويّة. وقد ازيلت تلك المعالم، بل وأحرق معظمها، حتى الآن مذبحة فض الاعتصام وها هي تعود من جديد تعبيرا عن روح الثورة التي تسعى استعادة أراضيها المفقودة في أعقاب التوقيع على الاتفاق بين تجمّع اعلان الحرية والتصحيح والمجلس العسكري.
صاحب تلك الروح حضور قوي وباهر للغائبين من شهداء نزهة الثورة، مثلما كان هناك حضور معنوي صلب للشعر والشعراء، وحضور أمتن لإثنين من الشعراء الذين غيبهم الهلاك قبل أعوام إذ كانت أشعارهم ورؤاهم تحتفظ بطاقتها التامة على تحريك الجموع على الرغم من غيابهم البدني.
وإذا كانت ساحة الاعتصام قد شكّلت مخططاً أوليا للمشروع الحضاري لقوى ثورة ديسمبر 2018 فإن الملاحم والرؤى الشعرية لكل من الشاعر محروم شريف صاحب قصيدة “حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي” والشاعر محمد الحسن سالم الذي يُطلق عليه (حمّيد) ذو رؤيا تتغير فيها صحراء بيوضة الجافة شمال دولة السودان إلى حقول برسيم علفا للثروة الحيوانية للمكان، ستصير زادا في مسيرة حملات تعمير وإعادة إعداد وتدريب بدأت حالا من مبادرة “حنبنيهو”.
يمكن كتابة تاريخ ثورة كانون الأول بترصد صدور أهم شعاراتها مثل:”سلميّة ….في مواجهة الحرامية و يا عنصري ومغرور …. كل الجمهورية دارفور” إلا أن الجيل (الراكب رأسه) الذي فعل وتفاعل وانفعل بالعملية الثورية يمكن ان يتبع لروح الشعراء الغائبين أكثر من انتمائه للتاريخ حسب التواتر الزمني للثورة: ففي قافلة تشييع جثمان الشاعر حميد الذي اقيم في أعقاب هلاكه التي وقعت في حادث حركة على سبيل الشمال، وهو في سبيله للخرطوم للمشاركة في إطلاق مجموعة شعرية لصديقه الشاعر السر عثمان الطيب، ورغم انّ حميد كان قد عبّر عن مخاوفه من فقدان التصرف الشعري سدىً إلاّ أنه غلّب التفاؤل بان لا شيء يضيع سدى وانما يتغير التصرف إلى غيوم تتشتت وتتجمع ثانية في زمن أحدث وموضع آخر، إذ قال:
شعر عن ثورة ديسمبر المجيدة 2021
“هل يعني التتمة الموت
ويتبعزق غناك سدىً
أم أن الغيم حيتسابق
على الأرض العزيزة فدا”.
ولد الشاعر محمد الحسن سالم (حميد) في 1956 عام استقلال السودان، وأمضى طفولته الباكرة في بلدة نوري على الضفة الغربية للنيل في منطقة تنتمي إلى تاريخ عتيق بأهراماته ومملكاته النوبيّة القديمة.
تتميّز أرض مدينة نوري وامتداداتها بالخصوبة والاتساع مما جعل أهلها يقيمون، منذ وقت مبكر، مشروعات زراعيّة تستخدم طرق السقي الجديدة في زراعة البساتين والجنائن وغيرها فيما إستمرت القرى الأخرى البعيدة تستند على ري السواقي حتى ستينيات القرن العشرين.
تقابل بلدة نوري من الضفة التابع للشرقّة للنيل بلدة كريمة، وهي محطة نهرية تستقبل البواخر النيلية، وبها ورش سكة حديد، ومكتبات، ومدارس، ومستشفى، ومركز شرطة، ووحدة مطافي وغيرها من الشركات الحديثة؛ وقرب مدينة كريمة ينتصب جبل البركل.
تعتمد بلدات وقرى المنطقة على الزراعة وفيها مزارعون ذوي ملكيات ضئيلة: تميّز مجتمعات تلك المنطقة بتوسّع جسيم في زراعة النخيل قلّص من مكان الأرض القابلة للزراعة بالمحاصيل الأخرى، مثلما تتمّيز بحالات الهجرة إلى المدن مع صعود المكننة، ثم التوجه إلى هجرة أعظم وأكبر، حتى الآن الفورة النفطية في الخليج. وقد انعكس كل ذلك في الأعمال الفنية لشباب المساحة الموجودين فيها والمهاجرين منها في ساحات الشعر والتطريب.
الفضاءات التي تتخلّق فيها الأعمال الفنيّة قد تشتمل على: حفلات الأعراس؛ الطريق الترابي الرئيسي (نهايات الأودية عند تقاطعها مع الطريق العام) حيث يمُر الشباب (الذكور) قسطاً من أمسياتهم في جلسات أنس مسائيّة على ما تجلبه الوديان من رمال.
في المسار يتعلّم الصبيان عزف آلة الطنبور؛ وفي القيلولة تتعلّم الإناث الرقص على ايقاعات صوتيّة تسمى في قليل من المناطق “النقرطة” تصدر عن الأمهات والخالات والعمات. أما شرفات المتاجر، حيث الترزي وصاحب المتجر والزبائن، فهي الأخرى فضاءات القيلولة للرجال والصبيان؛ وقد توسعت تلك الفضاءات لتشمل في ما في أعقاب الأندية وداخليات المدارس. وقد كانت الثيمات اللازمّة للشعر تتمحور حول أغراض الغزل والهجرة والحنين للوطن، وتتسرّب اسماء فواكه المساحة من مانجو وجوافة وبرتقال وغيرها إلى مفردات الشعر ورموزه في تشبيهات لجغرافية الجسم الانثوي.
من نهاية الستينات وحتى منتصف السبعينات برزت أشعار جيل حديث لم يتنكّر لأبوّة الشعراء الماضيين رغم التفاوت في المستوى التعليمي، في إدراك حقيقي إلى ان الموهبة الشعرية والغنائيّة لا علاقة لها بالنجاحات الأكاديمية. وسار المستجدين على نمط سابقيهم من إذ ربط الشعر بالغناء (شعر غنائي)، أتى حميد من تلك الخلفية وهذا السياق؛ وبرز مبكّراً كشاعر، إلا أن وأعطى نفسه جميعها للشعر.
في البداية نجد لدى حمّيد القصيدة -الأغنية، ثم يتحسن لكتابة الملاحم العارمة بعامية المنطقة وكأنه يكتب ملاحم حياة إنسان قرى المساحة وامتداداتها الوجدانية يملك.
كان لمحطات حياة حمّيد أثراً كبيراً على شعره: ثمة بلدة عطبرة (مدينة الحديد والنار) العماليّة، بكادحيها راكبي الدراجات، وورش تصليح القطارات؛ ثم الجهد في مدينة بورتسودان (الميناء) وصور القطار الذاهب إليها، إذ “شُفّع العرب الفقارا، اليفنو الشايلا إيدهم ويجروا لاحقين القطارا، لا سراب الصحرا مويه، لا حجار سلوم موائد” والعمل في الميناء حيث العمال النظاميين والعمال “المزاورية” (عمال اليوميّة)؛ ثم يجيء إلى الخرطوم للعمل والمشاركة في المنابر الطلابية في الجامعات لقراءة الشعر ثم الارتباط بمغنيي المنطقة، وبالمغني المسافر مصطفى سيد احمد، الذي مر بمناخات حمّيد نفسها من الانتماء إلى قرية ثم السفر والتحرك في التعليم بالمدرسة في وافرة مدن منها بورتسودان ثم مدينة الخرطوم؛ وقد ظل مصطفى هو الآخر يغرّد حتى أجدد أنفاسه.
كلام حميد الشعري
خطاب حميد الشعري ملحمي يتحاور عن بطولة، لكنها هنا منافسة الإنسان العادي في التصدي والتعامل مع محددات وقواعد وجوده. هو بيان (سردي، وصفي، درامي) عمل فيه على إبداع نصوص شعرية ملحميّة مفتوحة ومتفتّحة، ذات نفس طويل، وفضاءات فسيحة إذ ينفذ شعره إلى الشارع والساحة والميدان والحقل والصحراء.
في نصوصه الشعريّة تجد سير حياة ومسيرات صراع لأشخاص وجماعات مثل “الضو وجهجهة التساب” و”السرّة بت تعويض الكريم” و “ساد عبدالرحيم” وغيرها، حيث يتضح ذوبان الأنا أو تذويبها في الكل.
لا بد أن حمّيد سمع منذ عمر قبل الأوان الايقاع الموسيقى الذي يتدفق في الخطاب السهل الشفاهي، في اللهجات، ولا يوجد شك انه عرف أن اللغة العاميّة/الشفاهيّة، لغة منطقته المفتوحة على التفاعل الألسني، وأن ثقافاتها تعجّ بتواريخ وسياقات مثلما تتعرض لاعتداءات تستهدف طبقاتها المتراكمة منذ قرون. إنّها تشهد حالا تتناول مكوّنها النوبي مع انكماش أجهزة الزراعة القديمة (الساقية وملحقاتها) أمام توافد طرق السقي العصرية؛ مثلما تشهد تقهقر المعمار النوبي أمام غزو الطوب الأحمر والحديد والسيخ؛ وجدب الصحراء، وخطور هلاك نباتاتها وأعشابها نتيجة التصحّر، في إطار مهددات أخرى مثل تعالي الخطابات السلفيّة-الوعظية النكوصيّة.
قد يكون رحم الحياة العميق قد انتخب صوت حميد لبث حيويّة عصرية في كلمات وشرائح لغة مهددة بالتآكل والاستباحة لِكَي يعيد لها رئة تتنفس بها ونبضاً جديداً لضخ دمائها في مناخات الكساد.
وبالتالي يستنهض بيان حميد الشعري ويستفز قوى وطاقات الإنسان البسيط ليكافح بهدف العيش والمكوث والتعبير.
أتخذ حمّيد من تراث المكان اللغوي والثقافي، بسياقاته الاجتماعيّة-التاريخيّة، إرثاً له يسبح فيه ويتفحصه ويجدل منه وبه حبال تواصله مع الطبيعة والبشر. وقد قادته العامية/ المحكيّة إلى التوجه باتجاه ما هو مادي بلا ديكور أو زخرفة أو رتوش فاكتشف ان للشاعر سلطة اعتباريّة بحكم قدرة أدواته على تحريك الروح واستنفارها واستنهاضها.
ملاحم شعريّة
تنشد ملحمة حميد الشعريّة “الضو وجهجهة التساب” مثلاً، التعبير عن فيضان النهر، وعن لحظة انهيار عالم القرية في مواجهة أبصار واحد من المحبين لها؛ وهي لحظة تتفكّك فيها ذاكرة القرية فوق واقعها السائل ويتقاطع فيها الفردي والجمعي وتمر جثة القرية على مشهد ومسمع من وَلدها الضو فلا يعلم هل يستعيد مفرداتها أم ينعيها أم يبكيها أم ينتحب مأساته؟ أما ملحمة “ساد عبدالرحيم” فتحكي مأساة رجل يتوه في همومه وهو على سرج حماره يمر فوق قضيب قطار من دون ان ينتبه إلى ان يصطدم القطار به وبحماره ويقتلهما.
طبعا يمكن كتابة تاريخ لثورة ديسمبر 2018 السودانية متنوع الزوايا بامتدادات رأسية وافقية، وبأبعاد تستلهم سطح الحركة أو أغوارها. وقد يمكن كتابته عبر المراقبة الصحافي الوقائعي، كما يمكن رصد الشعارات المتنوعة منذ تخلّقها الأولي إلى ان تعتلي، طائعة مختارة، اللسان الناطق بشعار الثورة، ومن الممكن كذلكً كتابتها، مثلاً، عبر يوميات شاعرة كالمقاطع التي إستمرت تأتي بها الشاعرة – الطبية الشابة مروة، بل ومن الممكن الإتيان بأساليب متعددة للتأرخة.
وبقراءة تتوسل قدراً من الغوص في مياه الأعماق والأغوار يمكن ان نجد أن العدد الكبير من مقاطع الشاعر حميد قد اقتحمت التيار الأساسي وولجت فضاء شعارات الثورة الضرورية مثل شارة “حرية، سكينة وعدالة” الذي ردد الشبيبة فيه صخب هتافهم في قافلة تشييع جنازة الشاعر عام 2012: “حرية سكينة حرية”. وهنالك كلمات أغنية: “من حقي أغني” التي ظلت تُقرأ وتغنى طوال التظاهرات، وهناك غفيرة مقاطع تحشيد استشرفت صوراً من المشهد المستقبلي ونبهت للطاقات الكامنة لدى الجموع مثل:
“كلّها كمّها الرباطة
بي لُقّاطا
وإحنا كتار؟؟
صفاً واحداً كالنيل
وقلباً حار”
وهناك رؤى مثل:
“حلمت حلمت
إنّي صحيت
حلمت صحيت
وطن منضوم
بلا خطر وطواري تحوم”
وهناك أيضاً:
“ركزت على غناوي الفال
لساني سنين.. وحاضر بال
فنّالي التعب موّال
شهرت على المناحة غناي
فزع صبر الغلابا معاي”
وهناك أيضا كشفه المبكر لملامح الخداع الديني في:
“يا البتخادع حتى الله
وين الشُّهرة، المال والجاه؟؟
وين السطوة ؟؟ الجشع؟؟ القسوة ؟؟
أركز! أركز!
لا تجيب رخوة
يا متلبّك في الادران
الحجر الاسود ماهو البروة
وماها مكاوي الكعبة تجيها
حين يتكرفس ثوب التقوى
ومافي خرط للجنة تودي
لافي خطط ممهورة برشوه
والمشروع الديني الخالص
ما محتاج لدراسة جدوى
يا من قال يارب من قلبو
رد الخالق دايما ايوا”.