كيف وصل معمر القذافي الى الحكم … العقيد الليبي معمر القذافي خلال الكلام الذي ألقاه يوم 27 سبتمبر 1969 في طرابلس على إثر الانقلاب العسكري AFP

على الرّغم من أن فوز المنستيري بدأ مواصلة الشؤون اللِّـيبية بعد الانقلاب الذي نفّـذه “الضبّـاط الأحرار” في الفاتح من سبتمبر 1969 من موقع المفتش والخبير، فإنه لم يتعاطَ مع القِـيادة الشابة، التي مسكت بزِمام الموضوعات ببرودة المشاهد المحايد، وإنما كان واحدا من جِـيل وضع آمالا هائلة في “الثورة الليبية”، مثلما كان يُسمِّـيها أصحابها.

كيف وصل معمر القذافي الى الحكم

كان جيلا يعتقِـد أن الارتجاج الأرضي الذي أطاح بالملكية السنوسية، سيأتي في النهاية بالدواء الذي طال انتظاره لمداواة الرّجل المريض.

لم يستطع المنستيري، الذي عمل زيادة عن 30 عاما في “المركز القومي للبحث العلمي” الفرنسي وفروعه في مدينة “أكس” الجامعية، أن يلجم الذِّكرى التي هاجت في داخله، ونحن نهم بإجراء ذاك الحوار، فقال في اعتراف هو ليس بالاعتراف وتبرير لا يُشبه الدافع “تابعناهم (أي الضبّـاط الأحرار) بعناية وإعجاب، وكنا وإياهم في نفس السن تقريبا. فأنا مثلا من سِـن معمر القذافي، وكان المجتمع الليبي قبَـليا وبدَويا بمقدار 75%. اقتصرت المُـدن تقريبا على طرابلس وسـبْـها وبنغازي. بلد طفيف السكّـان، حيث لم يكُـن عددهم يتخطى 2.5 مليون مقيم في تلك المدة، وكبير الثروة وعلى قمته، شبّـان ثوريون مثلنا، فكيف لا يشدّنا إليه، وإن كُـنا ملاحظين ولسنا فاعلين”.

Swissinfo.Ch: ما هي أهمّ التحولات الأولى التي حملها نادي الشباب الثوريين برفقته لمّـا أمسك بزمام الحُـكم؟

تفوق المنستيري: تحوّلان أساسيان: هما قيام البلد العربية الليبية في 1969 وإشعار علني “سلطة الشعب” في مواجهة جسيم عُـقد في 3 آذار 1973. وتحوي معهاّـن الإعلان فِـكرة الجماهيرية وتكريس شِـعار “من تحَـزّب خان”، وظهرت خاصة المرجعية الاشتراكية للنظام، لكنها اشتراكية من صنف خاص.

هل حاولتم فهْـم تلك المُـصطلحات والشعارات ودلالاتها على نطاق تشكيل بِـنية النسق الجديد؟

فوز المنستيري: بلى، حلّـلنا وجهات نظر القذافي فوجدنا أنه متأثِّـر بآراء جون جاك روسّـو، وكان المثقف الليبي القمودي، الذي درس في تونس وكان يُتقن العربية والفرنسية، هو ما يُـترجم له فصولا من كُـتب روسو، فأعجِـب بأفكاره السياسية، وخصوصا فكرته عن سلطة الشعب التي هي الحُـكم الطبيعي، أي الأقرب إلى الطبيعة، وصادف هذا التفكير تجاوبا عند القذافي وأقرانه المُـنحدرين من أسَـر بدوية.

فالعناصر البدوية في الثورة أقصىَت الحضر وتخلّـصت من بينهم سريعا، لأن البدوي لا يفهَـم ما معنى حواجز أو تشريع وضعي… وهو يتهرّب عادة من المدينة ولا يثِـق سوى في بدوي مثله.

تمّ الإنشاء حجرا حجرا، وقد كان القذافي هو المُـنظِّـر على مدار الجولة الأولى، قبل أن يجيء المنظِّـرون الحاليون، أمثال رجب بودبوس، وفهمنا بواسطة استكمال مسار النظام الجديد عن كثيفَـب طوال السبعينات، أننا بإزاء نهج “بدوينقراطي”، إن صحّـت الترجمة من Bédouinocratie، ولسنا فيما يتعلق نمط “ثيوقراطي” أو “أوتوقراطي” أو أي عبرة من النماذج المعروفة في العِـلم السياسي الكلاسيكي.

فكانت البلد غائبة le non état، لِـذا اهتممنا بذلك الجديد، فلا رئيس، لكن هناك قائد، ولا أحزاب، إلا أن لجان شهرة تُسيِّـر المصلحة ولِـجان ثورية، هي الثورة، ثم شكّـلوا بعد ذاك لِـجان المراقبة. هكذا رصدنا تكوين نمط سياسي من نوع خاص، من دون الحُـكم له أو فوق منه. كان نظاما لافتا للاهتمام في نظريته التي وزّعت الأدوار بين ثلاثة أهرامات:

– المصلحة التي كانت بأيْـدي اللجان الشعبية، وهي لا تُـعيَّـن ولا تُنتَـخب، وإنما تُختار عن طريق “التصعيد”، وهي التي تُزادَ اللجنة الشعبية العامة، أي الحكومة، وهو مصطلح مرفوض يملكون، وتختار أمينها، أي رئيس الوزراء، ويشتمل على ذاك الرّكن البلديات أيضا، إذ لا وجود لرئيس بلدية. وعلى رأس هذا الهرَم يوجد “لقاء الشعب العام”، الذي كان يترأّسُـه في أحيان وفيرة القذافي ذاته، حتى إتفاق مكتوب الثمانينات، ثمّ صار آخرون يتولّـون المنصِـب.

– اللِّـجان الثورية التي لا يعرِف واحد من كيف يتِـم “تصعيدها” ولا كيف يُنتقى أعضاؤها، وهي تحكم لكنها لا تُسيِّـر الدواليب بالمعنى الإداري ولا تتفق أحيانا مع “اللِّـجان الشعبية” وحتى مع “القائد”، فتضطره إلى الانكماش عن بعض أفكاره.

– لِـجان الرصد التي تشكّـلت في الفترة الأخيرة بسبب عدم التفاهم بين اللِّـجان الشعبية والثورية، وهي كذلك جِـهاز لا يعرفه أحد.

ذاك نهج جيِّـد على الورق، لأنه يُتيح للشعب أن يدير شؤونه بشخصه، أي يكرِّس الديمقراطية المباشرة، لكننا مع كل أسف اكتشفْـنا في الثمانينات أن كل هذا صوري أو افتراضي لكنُـغة اليوم، لأن الحُـكم يرجع في الواقع إلى “القائد” والجيش والقبائل، وهي قبائل مسلّـحة.

وبدأ رِفاق سلاح القذافي يبتعِـدون عنه ويهربون، وأكثرهم أهمية عبد السكينة جلود، الذي احتمى بقبيلته في خاتمة المطاف، كما أن القذّافي محمِـي من قبيلته هو الآخر. وكما أفاد هو في الجزء الأخير من “الكتاب الأخضر” عن سلطة الشعب، فالنفوذ الحقيقي يرجع في الخاتمة إلى الأكثر قوة، بما يتضمن أن المكث لـ “الأصلح”.

وكيف تُحاجزّد طبيعة الإطار السياسي في ليبيا طِـيلة العقود الأربعة الماضية، وما هي أبرز سِـماته؟

نجاح المنستيري: هو منظومة استِـبدادي يختفي وراء مظهر جذّاب ومرِح أحيانا Sympathique، ولاشك أن خروجه المتكرّر على النّـمط المألوف، يجعل مواقفه الداخلية والخارجية تشدّ الانتباه، وتبدو مواقِـف أقل ما يُقال عنها أنها شاذّة، وتنزعج منها الدول العربية الأخرى. فلو ضربنا مثلا بموقفه من المرأة، لوجدنا أن التشريع اللِّـيبي مُقتَـبس من تشريع الأحوال الشخصية التونسي، مع احترامه للعادات الاجتماعية وللمرجعية الإسلامية، ويبدو هذا خاصة في موضوع تعدّد الزوجات.